تكشف لنا المنجزات العلمية العديدة اليوم أن الكثير مما تخيله كُتّاب الخيال العلمي، وإن بدا يوماً ضرباً من الخيال، أصبح اليوم واقعاً حقيقياً لا مجال للشك فيه. كما بلغ تطور أدوات البحث العلمي مدى يسهم اليوم في تحقيق معدلات بالغة السرعة في تعاقب الإنجازات العلمية، بالشكل الذي جعل بعض المهتمين بشئون العلم وتأريخه يقولون إن ما أنجز خلال العقدين السابقين من معرفة علمية يتفوق على المنجز العلمي في تاريخ البشرية كله.
فبحلول نهاية القرن العشرين كان العلم قد وصل إلى نهاية حقبة، كاشفا أسرار الذرّة وجزيء الحياة ومخترعا الكمبيوتر الإلكتروني، وبهذه الاكتشافات الثلاثة الرئيسية التي انطلقت بتأثير ثورة الكم Quantum، وثورة الـ (د.ن.ا) وثورة الكمبيوتر، تم أخيرا التوصل إلى القوانين الأساسية للمادة الحية والحوسبة.
ولهذا نهتم في هذا العدد بملف خاص عن مستقبل العلوم في بعض المنجزات العلمية، لتأمل الكيفية التي يحقق بها العلم إنجازاته الخيالية في مجالات الإنسان ذي القدرات الآلية، أو ما يعرف اليوم بالأنسال، كما نرى ما حققه العلم من بدء اكتشاف طرق للتخاطر بين الفئران، وما يبذله العلماء اليوم في البحث العلمي على فكرة الخلود، أو إطالة عمر البشر ومصادر الطاقة المستقبلية وغير ذلك.
لكن ما نراه من ممارسات ماضوية تمارسها اليوم بعض الجماعات السياسية، متزامنا مع هذه الإنجازات التي بدأت في تغيير المستقبل البشري بشكل جذري، يصيبنا بدهشة تفوق دهشتنا من المنجزات العلمية الحديثة التي تشبه الخيال.
إن الفارق الهائل الذي تكشفه عقلية التخلف أنها تبدو كأنها لا تريد أن توقف تطور الزمن وتثبته فقط، بل وأن تعود بالزمن للخلف عدة قرون، متجاهلة آلاف السنوات من مسيرة التقدم البشرية.
وهذا هو الخلاف الجذري الحقيقي في ما يبدو بين الثقافتين العربية الإسلامية والغربية، فبينما تبدو الثقافة الغربية مقدامة مُجربة، لا تخشى المستقبل ولا المجهول، بل تسعى للتعرف إليه وتبادر بذلك مكرسة كل إمكاناتها البشرية والمادية والتقنية، فإن ثقافتنا العربية المعاصرة على العكس تماما، تخشى المجهول، وتخاف من اقتحامه وتفضل العودة لما تظن أنها تعرفه من تراث، وللأسف أنها لا تعود، حتى إلى ما كان سبباً في التقدم في حينه، وتواصل البحث في أسباب انقطاعه، بل تتوقف عند قشور وشكليات مظهرية، تحتمي بها من فكرة الخوف من المستقبل والمجهول.
ولا يبدو في الحقيقة أن مجتمعات بدأت تبحث عن المستقبل حتى في خارج منظومتنا الشمسية يمكن أن تنظر للخلف أو تهتم بمن يتمنون أن يحيوا في الماضي. فبعد سنوات قليلة جدا، سيكون النظر للخلف في ضوء التسارع العلمي، ضربًا، ليس من التخلف، بل من العبث الذي لن يجد من ينصره في عالم يتطلع كله إلى منظومة جديدة من المفاهيم والأفكار التي ستؤثر في البشرية كلها بلا استثناء.
|